ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ، ومقاومة بعضها لبعض ، ودفع بعضها ببعض ، وتسليط بعضها على بعض ، تبين له كمال قدرة الرب تعالى ، وحكمته ، وإتقانه ما صنعه ، وتفرده بالربوبية ، والوحدانية ، والقهر ، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه ، كما أنه الغني بذاته ، وكل ما سواه محتاج بذاته .
وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي ، وأنه لا ينافي التوكل ، كما لا ينافيه دفع داء الجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل ، فإن تركها عجزاً ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولا بد مع هذا الإعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ، ولا توكله عجزاً .
وفيها رد على من أنكر التداوي ، وقال : إن كان الشفاء قد قدر ، فالتداوي لا يفيد ، وإن لم يكن قد قدر ، فكذلك . وأيضاً ، فإن المرض حصل بقدر الله ، وقدر الله لا يدفع ولا يرد ، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما أفاضل الصحابة ، فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا ، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى ، فقال : هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله ، فما خرج شئ عن قدره ، بل يرد قدره بقدره ، وهذا الرد من قدره ، فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما ، وهذا كرد قدر الجوع ، والعطش والحر ، والبرد بأضدادها ، وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله : الدافع ، والمدفوع والدفع .
ويقال لمورد هذا السؤال : هذا يوجب عليك أن لا تباشر سبباً من الأسباب التي تجلب بها منفعة ، أو تدفع بها مضرة ، لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا ، لم يكن بد من وقوعهما ، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما ، وفي ذلك خراب الدين والدنيا ، وفساد العالم ، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق ، معاند له ، فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه ، كالمشركين الذين قالوا : " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا " [ الأنعام : 148 ] ، و " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا " [ النحل : 35 ] ، فهذا قالوه دفعاً لحجة الله عليهم بالرسل .
وجواب هذا السائل أن يقال : بقي قسم ثالث لم تذكره ، هو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب ، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب ، وإلا فلا ، فإن قال : إن كان قدر لي السبب ، فعلته ، وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله .
قيل : فهل تقبل هذا الإحتجاج من عبدك ، وولدك ، وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ، ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته ، فلا تلم من عصاك ، وأخذ مالك ، وقذف عرضك ، وضيع حقوقك ، وإن لم تقبله ، فكيف يكون مقبولاً منك في دفع حقوق الله عليك. وقد روي في أثر إسرائيلي : أن إبراهيم الخليل قال : يا رب ممن الداء ؟ قال : مني . قال : فممن الدواء ؟ قال : مني. قال : فما بال الطبيب ؟ . قال : رجل أرسل الدواء على يديه .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لكل داء دواء" ، تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله ، تعلق قلبه بروح الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء ، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ، ومتى قويت هذه الأرواح ، قويت القوى التي هي حاملة لها ، فقهرت المرض ودفعته .
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه . وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب ، وما جعل الله للقلب مرضاً إلا جعل له شفاء بضده ، فإن علمه صاحب الداء واستعمله ، وصادف داء قلبه ، أبرأه بإذن الله تعالى .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الإحتماء من التخم ، والزيادة في الأكل على قدر الحاجة ، والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب
في المسند وغيره : عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا بد فاعلاً ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " .
الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية ، وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن ، وتناول الأغذية القليلة النفع ، البطيئة الهضم ، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة ، فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية ، واعتاد ذلك ، أورثته أمراضاً متنوعة ، منها بطيء الزوال وسريعه ، فإذا توسط في الغذاء ، وتناول منه قدر الحاجة ، وكان معتدلاً في كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير .
ومراتب الغذاء ثلاثة : أحدها : مرتبة الحاجة . والثانية : مرتبة الكفاية . والثالثة : مرتبة الفضلة . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضف معها ، فإن تجاوزها ، فليأكل في ثلث بطنه ، ويدع الثلث الآخر للماء ، والثالث للنفس ، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب ، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب ، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس ، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل ، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب ، وكسل الجوارح عن الطاعات ، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع . فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن .
هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً . وأما إذا كان في الأحيان ، فلا بأس به ، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن ، حتى قال : والذي بعثك بالحق ، لا أجد له مسلكاً . وأكل الصحابة بحضرته مراراً حتى شبعوا .
والشبع المفرط يضعف القوى والبدن ، وإن أخصبه ، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء ، لا بحسب كثرته .
ولما كان في الإنسان جزء أرضي ، وجزء هوائي ، وجزء مائي ، قسم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة .
فإن قيل : فأين حظ الجزء الناري ؟
قيل : هذه مسألة تكلم فيها الأطباء ، وقالوا : إن في البدن جزءاً نارياً بالفعل ، وهو أحد أركانه واسطقساته .
ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم ، وقالوا : ليس في البدن جزء ناري بالفعل ، واستدلوا بوجوه :
أحدها : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير ، واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية ، أو يقال : إنه تولد فيها وتكون ، والأول مستبعد لوجهين ، أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة ، فلو نزلت ، لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم . الثاني : أن تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل ، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونهاية العظم أولى بالانطفاء .
وأما الثاني : - وهو أن يقال : إنها تكونت ها هنا - فهو أبعد وأبعد ، لأن الجسم الذي صار ناراً بعد أن لم يكن كذلك ، قد كان قبل صيرورته إما أرضاً ، وإما ماء ، وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة ، وهذا الذي قد صار ناراً أولاً ، كان مختلطاً بأحد هذه الأجسام ، ومتصلاً بها ، والجسم الذي لا يكون ناراً إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها ، لا يكون مستعداً لأن ينقلب ناراً لأنه في نفسه ليس بنار ، والأجسام المختلطة باردة ، فكيف يكون مستعداً لانقلابه ناراً ؟
فإن قلتم : لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام ، وتجعلها ناراً بسبب مخالطتها إياها ؟
وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي ، وأنه لا ينافي التوكل ، كما لا ينافيه دفع داء الجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل ، فإن تركها عجزاً ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولا بد مع هذا الإعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ، ولا توكله عجزاً .
وفيها رد على من أنكر التداوي ، وقال : إن كان الشفاء قد قدر ، فالتداوي لا يفيد ، وإن لم يكن قد قدر ، فكذلك . وأيضاً ، فإن المرض حصل بقدر الله ، وقدر الله لا يدفع ولا يرد ، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما أفاضل الصحابة ، فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا ، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى ، فقال : هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله ، فما خرج شئ عن قدره ، بل يرد قدره بقدره ، وهذا الرد من قدره ، فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما ، وهذا كرد قدر الجوع ، والعطش والحر ، والبرد بأضدادها ، وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله : الدافع ، والمدفوع والدفع .
ويقال لمورد هذا السؤال : هذا يوجب عليك أن لا تباشر سبباً من الأسباب التي تجلب بها منفعة ، أو تدفع بها مضرة ، لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا ، لم يكن بد من وقوعهما ، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما ، وفي ذلك خراب الدين والدنيا ، وفساد العالم ، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق ، معاند له ، فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه ، كالمشركين الذين قالوا : " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا " [ الأنعام : 148 ] ، و " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا " [ النحل : 35 ] ، فهذا قالوه دفعاً لحجة الله عليهم بالرسل .
وجواب هذا السائل أن يقال : بقي قسم ثالث لم تذكره ، هو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب ، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب ، وإلا فلا ، فإن قال : إن كان قدر لي السبب ، فعلته ، وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله .
قيل : فهل تقبل هذا الإحتجاج من عبدك ، وولدك ، وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ، ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته ، فلا تلم من عصاك ، وأخذ مالك ، وقذف عرضك ، وضيع حقوقك ، وإن لم تقبله ، فكيف يكون مقبولاً منك في دفع حقوق الله عليك. وقد روي في أثر إسرائيلي : أن إبراهيم الخليل قال : يا رب ممن الداء ؟ قال : مني . قال : فممن الدواء ؟ قال : مني. قال : فما بال الطبيب ؟ . قال : رجل أرسل الدواء على يديه .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لكل داء دواء" ، تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله ، تعلق قلبه بروح الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء ، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ، ومتى قويت هذه الأرواح ، قويت القوى التي هي حاملة لها ، فقهرت المرض ودفعته .
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه . وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب ، وما جعل الله للقلب مرضاً إلا جعل له شفاء بضده ، فإن علمه صاحب الداء واستعمله ، وصادف داء قلبه ، أبرأه بإذن الله تعالى .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الإحتماء من التخم ، والزيادة في الأكل على قدر الحاجة ، والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب
في المسند وغيره : عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا بد فاعلاً ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " .
الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية ، وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن ، وتناول الأغذية القليلة النفع ، البطيئة الهضم ، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة ، فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية ، واعتاد ذلك ، أورثته أمراضاً متنوعة ، منها بطيء الزوال وسريعه ، فإذا توسط في الغذاء ، وتناول منه قدر الحاجة ، وكان معتدلاً في كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير .
ومراتب الغذاء ثلاثة : أحدها : مرتبة الحاجة . والثانية : مرتبة الكفاية . والثالثة : مرتبة الفضلة . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضف معها ، فإن تجاوزها ، فليأكل في ثلث بطنه ، ويدع الثلث الآخر للماء ، والثالث للنفس ، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب ، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب ، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس ، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل ، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب ، وكسل الجوارح عن الطاعات ، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع . فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن .
هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً . وأما إذا كان في الأحيان ، فلا بأس به ، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن ، حتى قال : والذي بعثك بالحق ، لا أجد له مسلكاً . وأكل الصحابة بحضرته مراراً حتى شبعوا .
والشبع المفرط يضعف القوى والبدن ، وإن أخصبه ، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء ، لا بحسب كثرته .
ولما كان في الإنسان جزء أرضي ، وجزء هوائي ، وجزء مائي ، قسم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة .
فإن قيل : فأين حظ الجزء الناري ؟
قيل : هذه مسألة تكلم فيها الأطباء ، وقالوا : إن في البدن جزءاً نارياً بالفعل ، وهو أحد أركانه واسطقساته .
ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم ، وقالوا : ليس في البدن جزء ناري بالفعل ، واستدلوا بوجوه :
أحدها : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير ، واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية ، أو يقال : إنه تولد فيها وتكون ، والأول مستبعد لوجهين ، أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة ، فلو نزلت ، لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم . الثاني : أن تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل ، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونهاية العظم أولى بالانطفاء .
وأما الثاني : - وهو أن يقال : إنها تكونت ها هنا - فهو أبعد وأبعد ، لأن الجسم الذي صار ناراً بعد أن لم يكن كذلك ، قد كان قبل صيرورته إما أرضاً ، وإما ماء ، وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة ، وهذا الذي قد صار ناراً أولاً ، كان مختلطاً بأحد هذه الأجسام ، ومتصلاً بها ، والجسم الذي لا يكون ناراً إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها ، لا يكون مستعداً لأن ينقلب ناراً لأنه في نفسه ليس بنار ، والأجسام المختلطة باردة ، فكيف يكون مستعداً لانقلابه ناراً ؟
فإن قلتم : لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام ، وتجعلها ناراً بسبب مخالطتها إياها ؟