قال: الإمام البخاري -رحمه الله- حدثنا عبد العزيز بن عبيد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة أمَّ المؤمنين - رضي الله عنها- أخبرته (أن فاطمة عليها السلام ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما أفاء الله عليه.
فقال لها أبو بكر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا نُورث، ما تركنا صدقة، فغضبت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر. قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيبر وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك. قال: لستُ تاركاً شيئاً كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملتُ به، فإني أخشى إن تركتُ شيئاً من أمره أن أزيغ، فأمّا صدقتُه بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعبّاس، وأمَّا خيبر، وفدك فأمسكها عمر وقال: هما صدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت لحقوقه التي تعروه، ونوائبه، وأمرهما إلى وليِّ الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم.
قال أبو عبد الله(أي: البخاري- رحمه الله-): اعتراك، افتعلت من عروتُه فأصبتُهُ، ومنه: يعروه، واعتراني.1
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله قوله: (( إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) وفي رواية معمر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يرد تأويل الداودي في الشرح في قوله: إن فاطمة حملت كلام أبي بكر على أنه لم يسمع ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما سمعه من غيره، ولذلك غضبت.
وقوله: ((فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته)) وفي رواية معمر(( فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى مات)) ووقع عند عمر بن شبة من وجه آخر عن معمر (( فلم تكلمه في ذلك المال )) وكذا نقل الترمذي عن بعض مشايخه أن معنى قول فاطمة لأبي بكر وعمر: لا أكلمكما أي في هذا الميراث، وتعقبه الشاشي بأن قرينه قوله ((غضبت)) تدل على أنها امتنعت من الكلام وهذا صريح الهجر، وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود من طريق أبي الطفيل قال: أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم أهله؟ قال: لا بل أهله. قالت: فأين سهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله إذا أطعم نبياً طعمة ثم قبضه جعلها للذي يقوم من بعده، فرأيت أن أرده على المسلمين. قالت: فأنت وما سمعته)) حسنه الألباني بدون زيادة " فرأيت أن أرده على المسلمين ".( قالت فأنت وما سمعته)) صحيح أبي داود( 2/ 575) رقم الحديث2575 طبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج ، الطبعة الأولى 1409هـ- 1989م .
فلا يعارض ما في الصحيح من صريح الهجران، ولا يدل على الرضا بذلك. ثم مع ذلك ففيه لفظة منكرة وهو قول أبي بكر "بل أهله" فإنه معارض للحديث الصحيح: (أن النبي لا يورث) نعم روى البيهقي من طريق الشعبي (أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبوبكر يستأذن عليك. قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها فترضاها حتى رضيت) وهو وإن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح، ولا يزال الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر.
وقد قال بعض الأئمة: إنما كانت هجرته انقباضاً عن لقائه والاجتماع به، وليس ذلك من الهجران المحرم، لأن شرطه أن يلتقيا فيُعرض هذا وهذا، وكأن فاطمة عليها السلام لما خرجت غضبى من عند أبي بكر تمادت في اشتغالها بحزنها ثم بمرضها.
وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبوبكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: (( لا نورث)) ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عليه، وتمسَّك أبوبكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل، فلما صمم على ذلك انقطعت عن الاجتماع به لذلك، فإن ثبت حديث الشعبي أزال الإشكال , وأخلق بالأمر أن يكون كذلك لما عُلم من وفور عقلها ودينها عليها السلام. ومن يريد المزيد عن هذه القصة , فليراجع "فتح الباري" كتاب الفرائض".
قوله: ((وكانت فاطمة تسأل أبابكر نصيبها مما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة )) هذا يؤيد ما تقدم من أنها لم تطلب من جميع ما خلف، وإنما طلبت شيئاً مخصوصاً.
قوله: (( فهما على ذلك إلى اليوم)) , هو من كلام الزهري أي حين حدث بذلك.(2)
قال الإمام النووي- رحمه الله- وأما ما ذُكر من هجران فاطمة أبابكر - رضي الله عنه - فمعناه: انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم، الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء.
وقوله في الحديث (فلم تكلمه) يعني في هذا الأمر، أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه، ولم ينقل قول أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته).3 وكما أسلفنا أن البيهقي روى من طريق الشعبي (أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبوبكر يستأذن عليك. قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها فترضاها حتى رضيت). وهو وإن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر.4 ,وقال السيوطي: (مرسلات الشعبي صحيحة عند أئمة المعرفة النقدة، قال العجلي: مرسل الشعبي صحيح. ولا يكاد يرسل إلا صحيحاً).5
وهنا تظهر القضية بوضوح وجلاء حقيقة هذا الخلاف، وأن الذي ذكرنا، هو الصحيح وأن كلاً من فاطمة وأبي بكر قد طالب بالحق الذي يراه حسب اجتهادهما.6
وأما بالنسبة لعدم إعطاء أبي بكر الميراث لفاطمة فذلك لأسباب وهي:
1. أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا نُورث وما تركناه فهو صدقة) وروى في هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبوبكر وعمر وعثمان وعليّ بن أبي طالب! وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس وأبو هريرة وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، والرواية عن هؤلاء الصحابة ثابتة في الصحاح والمسانيد، ولا شك أن هذا إجماع من الصحابة على ذلك , فعمل أبي بكر بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يُذم عليه، وقد جاءت أحاديث صحيحة أخرى تثبت هذه الحقيقة فأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يقتسم ورثني ديناراً ولا درهماً، وما تركت بعد نفقة نسائي ومُؤنة عاملي فهو صدقة).7 وأخرج أبو داود في سننه في جزء من حديث أبي الدرداء الطويل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((.. وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذه بحظِّ وافر)).8
2. إن أبا بكر - رضي الله عنه – لم يدَّعِ هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته، ولم يكن من أهل هذه الصدقة بل كان مُستغنياً عنها، وقد تضمن تحريم هذا الميراث على ابنته عائشة ولم يعطها منه ولا أياً من زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها أن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- حين تُوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا نورث ما تركنا صدقة).9
3. أن أبا بكر قد أعطى علياً وأولاده من المال أضعاف ما خلَّفه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذا فعل عمر – - رضي الله عنهما - ففي الحديث عن أبي هريرة قال: (جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: من يرثك؟ قال: أهلي وولدي. قالت: فمالي لا أرث أبي؟ فقال أبوبكر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا نُورث، ولكن أعُولُ من كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعوله، وأُنفق على مَن كان رسول الله ينفق عليه).10 ولم يُعلَم عن أبي بكر أنه منع أحداً حقَّه، ولا ظلم أحداً سواء في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو زمن خلافته فلماذا يظلم سيدة النساء حقَّها ؟!.
4. ثم إن فاطمة - رضي الله عنها- إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها فإذا دار الأمران: أذى أبيها وأذاها كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب، وهذا حال أبي بكر فإنه احترز عن أن يؤذي أباها أو يريبه بشيء فإن عهد عهداً أو أمر بأمر فخاف إن غيَّر عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره، وعهده ويتأذى.. بذلك) منهاج السنة (4/253). ويظهر هذا واضحاً جلياً في قول أبي بكر لفاطمة: ((... لست تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ).11
5. وليُعلم أن أبابكر كان يحب آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ويُقدِّرهم ويُجلِّهم، ولهذا كان يقول: (.. والله لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبُّ إليَّ من أن أصل قرابتي).12 وقال أيضاً: (( ارقبوا محمداً -صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته).13
والآن وبعد هذا الاستعراض لأسباب موقف أبي بكر من قضية الميراث أيجوز هذا التحامل من الرافضة الجعفرية ضدّه؟ واتهامه أنه آذى فاطمة وأغضبها وهضم حقها؟! هذه الإجابة نتركها للقارئ المنصف.
وأما ما ذكره الرافضة في عمر - رضي الله عنه - مع فاطمة في قصة فدك فإنه كذب وافتراء عليه - رضي الله عنه - فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وذلك أن عمر لم يكن له غرض في فدَك؛ لم يأخذ لنفسه ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه، ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بل كان يقدمهم في العطاء على جميع الناس، ويفضلهم في العطاء على جميع الناس، حتى أنه لما وضع الديوان للعطاء، وكتب أسماء الناس، قالوا: نبدأ بك؟ قال: لا, ابدأوا بأقارب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وضعوا عمر حيث وضعه الله.فبدأ ببني هاشم، وضم إليهم بني المطلب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام).14 فقدم العباس وعلياً والحسن والحسين، وفرض لهم أكثر مما فرض لنظرائهم من سائر الناس و القبائل، وفضَّل أسامة بن زيد على ابنه عبد الله بن عمر في العطاء، فغضب ابنه وقال: تُفضِّل عليَّ أسامة؟ قال: فإنه كان أحبَّ إلى رسول الله منك، وكان أبوه أحبَّ إلى رسول الله من أبيك. قال: وهذا الذي ذكرناه من تقديم بني هاشم وتفضيله لهم أمر مشهور عند جميع العلماء بالسير، لم يختلف فيه اثنان. فمن تكون هذه مراعاته لأقارب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعترته، أيظلم أقربَ الناس إليه، وسيدة نساء أهل الجنة وهي مصابة به في يسير من المال. وهو يُعطى أولادها أضعاف ذلك المال، ويُعطى من هو أبعد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ويُعطى علياً ؟!.
قال: ثم العادة الجارية, بأن طلاب الملك والرياسة لا يتعرضون للنساء, بل يكرمونهن لأنهن لا يصلحن للملك، فكيف يجزل العطاء للرجال , و المرأة يمنعها حقها، لا لغرض أصلاً ديني ولا دنيوي؟!15
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- في "منهاج السنة " رداً على كلام الرافضة الذين قالوا: إن أبا بكر منع فاطمة من ميراث فدك..).
قال: إن هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفه، ولكن سنذكر من ذلك وجوهاً (إن شاء الله تعالى).
أحدها: أن ما ذُكر من ادّعاء فاطمة - رضي الله عنها- فدَك , فإن هذا يناقض كونه ميراثاً لها، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزه، إن كان يُورث كما يورث غيره، أن يوصي لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه، وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئاً حتى مات الواهب كان ذلك باطلاً عند جماهير العلماء، فكيف يهب النبي -صلى الله عليه وسلم- فدَك لفاطمة ولا يكون هذا أمراً معروفاً عند أهل بيته والمسلمين، وحتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي - رضي الله عنهما-؟.
الثاني: أن ادعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة، وقد قال الإمام أبو العباس بن شريح في الكتاب الذي صنفه في الرد على عيسى ابن أبان لما تكلم معه في باب اليمين والشاهد: واحتج بما احتج، وأجاب عما عارض به عيسى بن أبان قال: وأما حديث البحتري بن حسَّان عن زيد بن علي أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها فدك، وأنها جاءت برجل وامرأة فقال: رجل مع رجل، وامرأة مع امرأة، فسبحان الله ما أعجب هذا!! قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا نورث، وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادَّعتها بغير الميراث، ولا أن أحداً شهد بذلك.
ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فدك: (إن فاطمة سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجعلها لها فأبى، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينفق منها ويعود على ضعفة بني هاشم ويُزِّوج منه أَيمَّهُمْ، وكانت كذلك حياة رسول الله أمر صدقة، وقبلت فاطمة الحق، وإني أشهدكم أني رددتها إلى ما كانت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-).
ولم يُسمع أن فاطمة - رضي الله عنها- ادعت أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أعطاها إياها في حديث ثابت متصل، ولا أن شاهداً شهد لها.
ولو كان ذلك لحُكي، لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه، فلم يقل أحد من المسلمين: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاها فاطمة، ولا سمعت فاطمة تدَّعيها حتى جاء البخترى بن حسّان يحكى عن زيد شيئاً ولا ندري ما أصله، ولا من جاء به، وليس من أحاديث أهل العلم: فضل بن مرزوق عن البخترى عن زيد، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب( المراد ابن مطهر الحلي صاحب "منهاج الكرامة") أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له، وكان الحديث قد حسن بقول زيد: لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبوبكر، وهذا مما لا يثبت على أبي بكر، ولا على فاطمة، ولو لم يخالفه أحد، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية، فكيف قد جاءت؟
وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عُروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما أفاء الله عليه بالمدينة، وفدك، وما بقي من خُمس خيبر، فقال أبوبكر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:" لا نورث ما تركناه صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال"، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً.
وفي البخاري: ( بما عمل فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتشهد عليّ، ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبابكر فضيلتك، وذكر قرابتهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحقهم. فتكلم أبوبكر فقال: والذي نفسي بيده لقرابةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبُّ إليَّ أن أصلهم من قرابتي.16
ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: حدثني عُروة: أن عائشة أخبرته بهذا الحديث (أي حديث عروة عن عائشة). قال: وفاطمة - رضي الله عنها- حينئذٍ تطلب صدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي بالمدينة، وقدك، وما بقي من خمس خيبر. قالت عائشة: فقال أبوبكر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا نُورث وما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال، يعني مال الله -عز وجل- ليس لهم أن يزيدوا على المال.
ورواه صالح عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة قالت فيه: فأبى أبوبكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ. فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي والعباس، فغلب عليٌّ عليها. وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر، قال: هما صدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرها على من وَلي الأمر. قال: فهما على ذلك اليوم.
فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم، فيها ما يُبين أن فاطمة - رضي الله عنه - طلبت ميراثها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما كانت تعرف من المواريث، فأُخبرت بما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلَّمت ورجعت، فكيف تطلبها ميراثاً وهي تدَّعيها مِلْكاً بالعطيّة؟ هذا ما لا معنى فيه. وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب-أي الكتاب الذي يرد عليه , وهو" منهاج الكرامة " لابن مطهر الحلي الرافضي- أن يتدبَّره، ولا نحتج بما يوجد في الأحاديث الثابتة لرده وإبانة الغلط فيه, ولكن حُبُّك الشيء يعمي ويصم.
وقد رُوي عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة -وقد قرأت عليه- إني أقرأ مثل ما قرأت، ولا يبلغن على أن يكون قاله كله. قالت فاطمة: هو لك ولقرابتك ؟ قال: ولا وأنت عندي مصدَّقة أمينة، فإن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إليك في هذا، أو وعدك فيه موعداً، أو أوجبه لكم حقاً صدَّقتك. فقالت: لا , غير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال حين أنزل عليه: ((أبشروا يا آل محمد، وقد جاءكم الله -عز وجل- بالغنى). قال أبوبكر: صدق الله ورسوله وصدقت. فلكم الفيء، ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن أسلم هذا السهم كله كاملاً إليكم، ولكن الفيء الذي يسعكم. وهذا يبين أن أبا بكر كان يقبل قولها، فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة؟ ولكنه يتعلق بكل شيء يجده .17 .
وللمزيد عن هذا الموضوع يمكن مراجعة كتاب منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/228-250).
والحمد لله رب العالمين.
فقال لها أبو بكر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا نُورث، ما تركنا صدقة، فغضبت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر. قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيبر وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك. قال: لستُ تاركاً شيئاً كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملتُ به، فإني أخشى إن تركتُ شيئاً من أمره أن أزيغ، فأمّا صدقتُه بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعبّاس، وأمَّا خيبر، وفدك فأمسكها عمر وقال: هما صدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت لحقوقه التي تعروه، ونوائبه، وأمرهما إلى وليِّ الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم.
قال أبو عبد الله(أي: البخاري- رحمه الله-): اعتراك، افتعلت من عروتُه فأصبتُهُ، ومنه: يعروه، واعتراني.1
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله قوله: (( إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) وفي رواية معمر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يرد تأويل الداودي في الشرح في قوله: إن فاطمة حملت كلام أبي بكر على أنه لم يسمع ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما سمعه من غيره، ولذلك غضبت.
وقوله: ((فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته)) وفي رواية معمر(( فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى مات)) ووقع عند عمر بن شبة من وجه آخر عن معمر (( فلم تكلمه في ذلك المال )) وكذا نقل الترمذي عن بعض مشايخه أن معنى قول فاطمة لأبي بكر وعمر: لا أكلمكما أي في هذا الميراث، وتعقبه الشاشي بأن قرينه قوله ((غضبت)) تدل على أنها امتنعت من الكلام وهذا صريح الهجر، وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود من طريق أبي الطفيل قال: أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم أهله؟ قال: لا بل أهله. قالت: فأين سهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله إذا أطعم نبياً طعمة ثم قبضه جعلها للذي يقوم من بعده، فرأيت أن أرده على المسلمين. قالت: فأنت وما سمعته)) حسنه الألباني بدون زيادة " فرأيت أن أرده على المسلمين ".( قالت فأنت وما سمعته)) صحيح أبي داود( 2/ 575) رقم الحديث2575 طبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج ، الطبعة الأولى 1409هـ- 1989م .
فلا يعارض ما في الصحيح من صريح الهجران، ولا يدل على الرضا بذلك. ثم مع ذلك ففيه لفظة منكرة وهو قول أبي بكر "بل أهله" فإنه معارض للحديث الصحيح: (أن النبي لا يورث) نعم روى البيهقي من طريق الشعبي (أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبوبكر يستأذن عليك. قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها فترضاها حتى رضيت) وهو وإن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح، ولا يزال الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر.
وقد قال بعض الأئمة: إنما كانت هجرته انقباضاً عن لقائه والاجتماع به، وليس ذلك من الهجران المحرم، لأن شرطه أن يلتقيا فيُعرض هذا وهذا، وكأن فاطمة عليها السلام لما خرجت غضبى من عند أبي بكر تمادت في اشتغالها بحزنها ثم بمرضها.
وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبوبكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: (( لا نورث)) ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عليه، وتمسَّك أبوبكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل، فلما صمم على ذلك انقطعت عن الاجتماع به لذلك، فإن ثبت حديث الشعبي أزال الإشكال , وأخلق بالأمر أن يكون كذلك لما عُلم من وفور عقلها ودينها عليها السلام. ومن يريد المزيد عن هذه القصة , فليراجع "فتح الباري" كتاب الفرائض".
قوله: ((وكانت فاطمة تسأل أبابكر نصيبها مما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة )) هذا يؤيد ما تقدم من أنها لم تطلب من جميع ما خلف، وإنما طلبت شيئاً مخصوصاً.
قوله: (( فهما على ذلك إلى اليوم)) , هو من كلام الزهري أي حين حدث بذلك.(2)
قال الإمام النووي- رحمه الله- وأما ما ذُكر من هجران فاطمة أبابكر - رضي الله عنه - فمعناه: انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم، الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء.
وقوله في الحديث (فلم تكلمه) يعني في هذا الأمر، أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه، ولم ينقل قول أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته).3 وكما أسلفنا أن البيهقي روى من طريق الشعبي (أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبوبكر يستأذن عليك. قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها فترضاها حتى رضيت). وهو وإن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر.4 ,وقال السيوطي: (مرسلات الشعبي صحيحة عند أئمة المعرفة النقدة، قال العجلي: مرسل الشعبي صحيح. ولا يكاد يرسل إلا صحيحاً).5
وهنا تظهر القضية بوضوح وجلاء حقيقة هذا الخلاف، وأن الذي ذكرنا، هو الصحيح وأن كلاً من فاطمة وأبي بكر قد طالب بالحق الذي يراه حسب اجتهادهما.6
وأما بالنسبة لعدم إعطاء أبي بكر الميراث لفاطمة فذلك لأسباب وهي:
1. أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا نُورث وما تركناه فهو صدقة) وروى في هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبوبكر وعمر وعثمان وعليّ بن أبي طالب! وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس وأبو هريرة وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، والرواية عن هؤلاء الصحابة ثابتة في الصحاح والمسانيد، ولا شك أن هذا إجماع من الصحابة على ذلك , فعمل أبي بكر بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يُذم عليه، وقد جاءت أحاديث صحيحة أخرى تثبت هذه الحقيقة فأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يقتسم ورثني ديناراً ولا درهماً، وما تركت بعد نفقة نسائي ومُؤنة عاملي فهو صدقة).7 وأخرج أبو داود في سننه في جزء من حديث أبي الدرداء الطويل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((.. وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذه بحظِّ وافر)).8
2. إن أبا بكر - رضي الله عنه – لم يدَّعِ هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته، ولم يكن من أهل هذه الصدقة بل كان مُستغنياً عنها، وقد تضمن تحريم هذا الميراث على ابنته عائشة ولم يعطها منه ولا أياً من زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها أن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- حين تُوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا نورث ما تركنا صدقة).9
3. أن أبا بكر قد أعطى علياً وأولاده من المال أضعاف ما خلَّفه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذا فعل عمر – - رضي الله عنهما - ففي الحديث عن أبي هريرة قال: (جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: من يرثك؟ قال: أهلي وولدي. قالت: فمالي لا أرث أبي؟ فقال أبوبكر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا نُورث، ولكن أعُولُ من كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعوله، وأُنفق على مَن كان رسول الله ينفق عليه).10 ولم يُعلَم عن أبي بكر أنه منع أحداً حقَّه، ولا ظلم أحداً سواء في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو زمن خلافته فلماذا يظلم سيدة النساء حقَّها ؟!.
4. ثم إن فاطمة - رضي الله عنها- إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها فإذا دار الأمران: أذى أبيها وأذاها كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب، وهذا حال أبي بكر فإنه احترز عن أن يؤذي أباها أو يريبه بشيء فإن عهد عهداً أو أمر بأمر فخاف إن غيَّر عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره، وعهده ويتأذى.. بذلك) منهاج السنة (4/253). ويظهر هذا واضحاً جلياً في قول أبي بكر لفاطمة: ((... لست تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ).11
5. وليُعلم أن أبابكر كان يحب آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ويُقدِّرهم ويُجلِّهم، ولهذا كان يقول: (.. والله لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبُّ إليَّ من أن أصل قرابتي).12 وقال أيضاً: (( ارقبوا محمداً -صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته).13
والآن وبعد هذا الاستعراض لأسباب موقف أبي بكر من قضية الميراث أيجوز هذا التحامل من الرافضة الجعفرية ضدّه؟ واتهامه أنه آذى فاطمة وأغضبها وهضم حقها؟! هذه الإجابة نتركها للقارئ المنصف.
وأما ما ذكره الرافضة في عمر - رضي الله عنه - مع فاطمة في قصة فدك فإنه كذب وافتراء عليه - رضي الله عنه - فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وذلك أن عمر لم يكن له غرض في فدَك؛ لم يأخذ لنفسه ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه، ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بل كان يقدمهم في العطاء على جميع الناس، ويفضلهم في العطاء على جميع الناس، حتى أنه لما وضع الديوان للعطاء، وكتب أسماء الناس، قالوا: نبدأ بك؟ قال: لا, ابدأوا بأقارب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وضعوا عمر حيث وضعه الله.فبدأ ببني هاشم، وضم إليهم بني المطلب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام).14 فقدم العباس وعلياً والحسن والحسين، وفرض لهم أكثر مما فرض لنظرائهم من سائر الناس و القبائل، وفضَّل أسامة بن زيد على ابنه عبد الله بن عمر في العطاء، فغضب ابنه وقال: تُفضِّل عليَّ أسامة؟ قال: فإنه كان أحبَّ إلى رسول الله منك، وكان أبوه أحبَّ إلى رسول الله من أبيك. قال: وهذا الذي ذكرناه من تقديم بني هاشم وتفضيله لهم أمر مشهور عند جميع العلماء بالسير، لم يختلف فيه اثنان. فمن تكون هذه مراعاته لأقارب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعترته، أيظلم أقربَ الناس إليه، وسيدة نساء أهل الجنة وهي مصابة به في يسير من المال. وهو يُعطى أولادها أضعاف ذلك المال، ويُعطى من هو أبعد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ويُعطى علياً ؟!.
قال: ثم العادة الجارية, بأن طلاب الملك والرياسة لا يتعرضون للنساء, بل يكرمونهن لأنهن لا يصلحن للملك، فكيف يجزل العطاء للرجال , و المرأة يمنعها حقها، لا لغرض أصلاً ديني ولا دنيوي؟!15
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- في "منهاج السنة " رداً على كلام الرافضة الذين قالوا: إن أبا بكر منع فاطمة من ميراث فدك..).
قال: إن هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفه، ولكن سنذكر من ذلك وجوهاً (إن شاء الله تعالى).
أحدها: أن ما ذُكر من ادّعاء فاطمة - رضي الله عنها- فدَك , فإن هذا يناقض كونه ميراثاً لها، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزه، إن كان يُورث كما يورث غيره، أن يوصي لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه، وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئاً حتى مات الواهب كان ذلك باطلاً عند جماهير العلماء، فكيف يهب النبي -صلى الله عليه وسلم- فدَك لفاطمة ولا يكون هذا أمراً معروفاً عند أهل بيته والمسلمين، وحتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي - رضي الله عنهما-؟.
الثاني: أن ادعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة، وقد قال الإمام أبو العباس بن شريح في الكتاب الذي صنفه في الرد على عيسى ابن أبان لما تكلم معه في باب اليمين والشاهد: واحتج بما احتج، وأجاب عما عارض به عيسى بن أبان قال: وأما حديث البحتري بن حسَّان عن زيد بن علي أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها فدك، وأنها جاءت برجل وامرأة فقال: رجل مع رجل، وامرأة مع امرأة، فسبحان الله ما أعجب هذا!! قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا نورث، وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادَّعتها بغير الميراث، ولا أن أحداً شهد بذلك.
ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فدك: (إن فاطمة سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجعلها لها فأبى، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينفق منها ويعود على ضعفة بني هاشم ويُزِّوج منه أَيمَّهُمْ، وكانت كذلك حياة رسول الله أمر صدقة، وقبلت فاطمة الحق، وإني أشهدكم أني رددتها إلى ما كانت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-).
ولم يُسمع أن فاطمة - رضي الله عنها- ادعت أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أعطاها إياها في حديث ثابت متصل، ولا أن شاهداً شهد لها.
ولو كان ذلك لحُكي، لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه، فلم يقل أحد من المسلمين: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاها فاطمة، ولا سمعت فاطمة تدَّعيها حتى جاء البخترى بن حسّان يحكى عن زيد شيئاً ولا ندري ما أصله، ولا من جاء به، وليس من أحاديث أهل العلم: فضل بن مرزوق عن البخترى عن زيد، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب( المراد ابن مطهر الحلي صاحب "منهاج الكرامة") أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له، وكان الحديث قد حسن بقول زيد: لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبوبكر، وهذا مما لا يثبت على أبي بكر، ولا على فاطمة، ولو لم يخالفه أحد، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية، فكيف قد جاءت؟
وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عُروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما أفاء الله عليه بالمدينة، وفدك، وما بقي من خُمس خيبر، فقال أبوبكر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:" لا نورث ما تركناه صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال"، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً.
وفي البخاري: ( بما عمل فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتشهد عليّ، ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبابكر فضيلتك، وذكر قرابتهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحقهم. فتكلم أبوبكر فقال: والذي نفسي بيده لقرابةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبُّ إليَّ أن أصلهم من قرابتي.16
ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: حدثني عُروة: أن عائشة أخبرته بهذا الحديث (أي حديث عروة عن عائشة). قال: وفاطمة - رضي الله عنها- حينئذٍ تطلب صدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي بالمدينة، وقدك، وما بقي من خمس خيبر. قالت عائشة: فقال أبوبكر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا نُورث وما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال، يعني مال الله -عز وجل- ليس لهم أن يزيدوا على المال.
ورواه صالح عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة قالت فيه: فأبى أبوبكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ. فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي والعباس، فغلب عليٌّ عليها. وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر، قال: هما صدقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرها على من وَلي الأمر. قال: فهما على ذلك اليوم.
فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم، فيها ما يُبين أن فاطمة - رضي الله عنه - طلبت ميراثها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما كانت تعرف من المواريث، فأُخبرت بما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلَّمت ورجعت، فكيف تطلبها ميراثاً وهي تدَّعيها مِلْكاً بالعطيّة؟ هذا ما لا معنى فيه. وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب-أي الكتاب الذي يرد عليه , وهو" منهاج الكرامة " لابن مطهر الحلي الرافضي- أن يتدبَّره، ولا نحتج بما يوجد في الأحاديث الثابتة لرده وإبانة الغلط فيه, ولكن حُبُّك الشيء يعمي ويصم.
وقد رُوي عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة -وقد قرأت عليه- إني أقرأ مثل ما قرأت، ولا يبلغن على أن يكون قاله كله. قالت فاطمة: هو لك ولقرابتك ؟ قال: ولا وأنت عندي مصدَّقة أمينة، فإن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إليك في هذا، أو وعدك فيه موعداً، أو أوجبه لكم حقاً صدَّقتك. فقالت: لا , غير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال حين أنزل عليه: ((أبشروا يا آل محمد، وقد جاءكم الله -عز وجل- بالغنى). قال أبوبكر: صدق الله ورسوله وصدقت. فلكم الفيء، ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن أسلم هذا السهم كله كاملاً إليكم، ولكن الفيء الذي يسعكم. وهذا يبين أن أبا بكر كان يقبل قولها، فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة؟ ولكنه يتعلق بكل شيء يجده .17 .
وللمزيد عن هذا الموضوع يمكن مراجعة كتاب منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/228-250).
والحمد لله رب العالمين.